بقلم: أحمد العش
باحث ماجستير – كلية الدراسات العليا جامعة الأزهر.
يُحكى أن “جحا” اسـتعار في يوم من الأيام طنجرة من أحد جيرانه، وعندما أعادها إليه أعاد معها طنجرةً أُخرى صغيرة، فسأله جاره عن سبب إرفاق تلك الطنجرة الصغيرة مع تلك التي استعارها؛ فقال “جحا” إن طنجرتك ولدت بالأمس طنجرة صغيرة وإنها الآن من حقك، مبارك عليك يا أخي!، وبعد مرور بضعة أيام ذهب “جحا” إلى جاره مرةً أخرى وطلب منه الطنجرة ثانيةً فأعطاه جاره إياها فرحاً ومسروراً على أمل أن يعيد “جحا” (الأحمق في نظره) فعلته السابقة، وبعد مرور أيام ذهب جار “جحا” إلى بيت “جحا” وطلب منه أن يعيد له طنجرته، فقال له “جحا” وهو يبكي (إن طنجرتك قد توفيت بالأمس)، فقال له جاره متعجباً (كيف توفيت الطنجرة ؟؟)، فأجابه “جحا” في حزم (أتصدق أن الطنجرة تُولد ولا تُصدق أن الطنجرة تموت!)، فسكت الرجل بعد أن أفحمه الرد، وذهب مندهشاً من ذكائه الشديد.
دعونا من مثال “جحا” الآن.. ولأقص عليكم مناسبة مقالي هذا، وخلال سردي لتفاصيل القصة ستعلمون ما هي علاقة “حجا” بموضوع المقال، والذي جاء تحت عنوان (آفة مُجتمعنا العَلْمَان)، المقال الذي أُدرك أنه سيجلب لي الكثير من الجدال والنقاشات التي لا طائل منها، وخصوصاً مع من هم مقتنعون ومؤمنون بأفكار العلمانية الهشة، لكن وقبل أي شيء أحببت أن أوضح بأنني لن أرد على أي منها، فمقالي هذا ما هو إلا عرض لموقف عابر حدث معي، وتجربة حياتيه استشعرت من خلال التأمل في تفاصيلها نعمة الدراسة في الأزهر الشريف، لذا دعونا على بركة الله نبدأ في سرد قصتنا.
بدأ الأمر حينما طُلب مني أن أكتب مقالاً صحفياً لأحد مشروعات التخرج لطلاب قسم الصحافة والنشر بكلية الإعلام جامعة الأزهر الشريف، وبينما أنا جالس في أحد المقاهي الشعبية أحتسي فنجاناً من القهوة (السادة)؛ إن أراد أحد منكم أن يدعوني ذات يومٍ إلى احتساء القهوة أو ما شابة فأظن أن رسالتي قد وصلت!! وعرفتم الآن قهوتي كيف تكون.. المهم.. أثناء جلوسي في ذلك المقهى دخل علينا فتاة ترتدي ملابس تشبه إلى حد كبير ملابس المفتش “كورمبو” المحقق المعروف الذي تربينا على حلقات برنامجه مذ كنا صغاراً، تلك الفتاة العشرينية كانت تضع قبعة تشبه إلى حد كبير قبعة “رأفت الهجان”، تمسك بسيجار نسائي ينبعث من أبخرتها البيضاء رائحة النعناع، نسيت أن أذكر لكم أنها حينما جلست نزعت القبعة فانكشفت أمامي تسريحة شعرها والتي تشبه تسريحة زميل لي يعمل بالمحاماة؛ لن أذكر اسمه لكنه سيعرف نفسه وسيبتسم حينما يصل إلى هذا الجزء من المقال، وهذا يكفيني فابتسامته حقاً تسعدني وتثلج قلبي، أما عن شكل تسريحة شعرها فإنها لن تسمن ولن تغني من جوع في حال لو علمتم ماهيتها.
بعد أن شربت قهوتي وأنهيت كتابة مقالي لاحظت أن تلك الفتاة تحمل بين يديها كتاباً يحمل عنواناً يبدوا في ظاهرة أنه عنوان عميق وله مخزى، وذلك كان يظهر جلياً من خلال تعبيرات وجهها التي كانت منسجمة جداً مع ما جاء في هذا الكتاب من آراء وأفكار، كانت تمسك الكتاب وتقرأ فيه وتحرك يديها وكأنها تلقي خطاباً أمام الأمم المتحدة، ولم يمر سوى بضع لحظات حتى دخلت فتاة محجبة يظهر عليها سمات الصالحين (وأحسبها على خير)، وجلست بجوار تلك الفتاة العشرينية القادمة من حواري باريس والتي أدركت بفراستي أنهما صديقتين مقربتين لكن شتان الفارق بينهما.. مرت الدقائق كأنها لحظات، وسرعان ما كسر حاجز الصمت الرهيب الذي خيم على المكان أصوات جدال محتدم دار بين هاتين الفتاتين وبكل أسف وكعادتي أقحم نفسي دائماً في مثل هذه المواقف.
كان النقاش الدائر بين هاتين حول قضية التراث، وعن حكم الحجاب وهل هو حرية شخصية أم فريضة على كل مسلمة، ومن خلال حديث المرأة الأولى استشفيت من حديثها أنها علمانية الهوى، وهذا ما أكده لي عنوان الكتاب التي كانت ممسكة بصفحاته مستشهدة منه على صدق حديثها وكأنه والعياذ بالله كتاب منزل من عند الله، لكن وحتى لا أطيل.. استمر النقاش بينهما قرابة الساعة حتى بدأت سيدة باريس تلك، بسب الأزهر الشريف ومشايخه والبخاري ومسلم وكتب التراث والإمام أحمد وفضيلة الإمام الأكبر وكل من يقول بفرض الحجاب، الأمر الذي جعل الدم يغلي في عروقي ودفعني للنزول عن صمتي وخوض جدال معها بفضل الرحمن أفحمتها فيه.
ملخص ما حدث في هذا الجدال هو بالضبط ما حدث في مثال “جحا” الذي ذكرته لكم في المقدمة، حيث أنني تعمدت أن أبين لها اتفاقي معها في الرأي أولاً؛ حتى تسمح لي بالدخول معها في هذا النقاش، وسرعان ما قلبت الطاولة عليها وأخذت أفند لها ادعاءاتها وقدمت لها أدلة لا تدع مجالاً للشك أن آراءها تلك ما هي إلا أهواء ما أنزل الله بها من سلطان، حتى أنها من هول صدمتها فعلت كما فعل (جار جحا) وسكتت عن الكلام وكأن على رأسها الطير، كل ذلك فعلته مستشهداً بالأدلة العقلية دون الرجوع إلى النصوص الدينية الصحيحة التي كانت تسفه من قيمتها تلك السيدة المسكينة، حتى أنها بدت وكأنها تسمع عن تلك الأشياء للمرة الأولى في حياتها، لكن وبكل أسف المعركة لم تنتهي من الجولة الأولى فالحياة ليست وردية يا عزيزي، وبكل أسف العند يورث الكفر، فقد ذهبت تلك المسكينة وخلفها صديقتها المحجبة ولم تعترف بالهزيمة.
هذا الموقف لم يمر عليّ مرور الكرام بل أنه دفعني إلى كتابة تلك الكلمات الآن، لأقول لك عزيزي القارئ أن الحجة لا تسقط إلا بحجة أقوى منها، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وبكل أسف هذا ما نفتقر إليه اليوم في خطابنا الدعوي والإعلامي، وبالأخص حين التعرض إلى قضية جدلية يتخدها العلمانيون وغيرهم أرضاً خصبة لتنفيذ مخططاتهم وإشباع رغباتهم والتشكيك في الثوابت التي أجمع عليها عقلاء كل أمة خلت من قبلنا، وبكل أسف قلما نجد الآن شخصية مثل الراحل الأستاذ الدكتور “محمد عمارة” المفكر الإسلامي الشهير وأحد أعمدة الأزهر الشريف في عصره، الذي كان كالشوكة في حلق العلمانية وأهلها ودعاتها.
لقد أثبت لي هذا الموقف الذي يبدوا بسيطاً وعابراً (فهو يحدث كل يوم بأشكال عدة ومختلفة لكنه يمر مرور الكرام على الكثيرين) أن العلماني والمتأثرين بالعلمانية (لا يقرؤون) ولا يعرفون عن صحيح الدين شيئاً، بل وبكل أسف هم كجار جحا يسيرون خلف الآراء التي تناسب أو تتفق مع أهوائهم الشخصية، كما فعل جار جحا المسكين الذي سلم بأن الطنجرة الكبيرة ولدت طنجرة صغيرة؛ لأن في ذلك كان مكسباً له، أما حينما أفاقه جحا من غفلته وصارحه بحقيقة أن الطنجرة التي تلد فإنها أيضاً تموت، ذهب مُفحماً خائباً عاجزاً عن الرد بعد أن خالف رد “جحا” هواه، ولأن هذا لا يتفق مع العقل والمنطق، الذي يزعم العلمانيون في عصرنا الحالي بأنهم أسياد الحجة والمنطق.
عزيزي القارئ.. الدين الإسلامي دين يدعم المنطق ويحترم العقل والتدبر وينبع من بئر صافية وفكر منير، بل أن الله جل في علاه أمرنا في مواطن عدة في القرآن الكريم أن نتدبر ونتفكر ونبتعد عن التقليد الأعمى، كما أن ديننا الإسلامي يهتم في المقام الأول أيضاً بالحفاظ على حقوق كل مسلم ومسلمة وهدايتهم إلى كل أمر مستقيم، بل وأنه فعل أكثر من ذلك وصان حقوق غير المسلمين أيضاً.. مهما صور لك العلمانيون أن الدين ظالمٌ للمرأة أو هاضمٌ لحق بعض الأفراد في المجتمع، أو أن الدين بعيد عن السياسة ولابد من فصل الدين عن الدولة لأن الدين يظلم بعض الفئات ويسلبهم حقوقهم، كل هذا ما هو إلا درب من العبث ولا يمت للواقع بصلة، والتاريخ الإسلامي أكبر دليل وشاهد، يكفينا أننا أمة عاش بها على سبيل المثال لا الحصر إنسانٌ قال لأصحابه ذات يوم.. اشتروا بمال الذكاة المتبقي قمحاً وانثروه على رؤوس الجبال؛ حتى لا يُقال جاع طير في بلاد المسلمين!!، يكفينا أننا أمة لم يُظلم في ظل حُكمها لا إنس ولا جان، لكن وبكل أسف اضمحلت تلك الصورة، وعلا صوت الباطل على الحق وضعفت الأمة وتكالب عليها غثاء السيل، وبات حالنا فيه الآن (آفة مُجتمعنا العَلْمَان)..يُتبع.